الصياغة التشريعية في عصر الذكاء الإصطناعي والتحول الرقمي

الصياغة التشريعية في عصر الذكاء الإصطناعي والتحول الرقمي

الصياغة التشريعية في عصر الذكاء الإصطناعي والتحول الرقمي
محمود محمد علي صبره
استشاري الصياغة التشريعية للأمم المتحدة والبنك الدولي

لم يعد تخيل أن يحل "الروبوت" أو الكمبيوتر محل الإنسان في مختلف النشاطات الإنسانية مجرد خيال علمي؛ والصياغة التشريعية ليست استثناء من ذلك. فمع ظهور تكنولوجيات مبتكرة، مثل، الذكاء الإصطناعي AI، وتعلم الآلات machine learning، ونظم إدارة البيانات، أصبح استخدامها في مجال إعداد مشروعات القوانين وصياغتها مسألة وقت فقط. ويُعرّف "الذكاء الاصطناعي" بأنه "نظام آلي يحاكي تصرفات الإنسان في مواجهة ظروف معينة." ويُقصد "بالتحول الرقمي" تحويل المعلومات إلى أرقام يسهل التعامل معها بحيث يتم تحليلها ومعالجتها واستخدامها بطريقة أسهل وأسرع وأكثر كفاءة. وقد اخترق الذكاء الإصطناعي والتحول الرقمي مختلف النشاطات البشرية؛ وعاجلا أم آجلا، سيخترق مجال الصياغة التشريعية.

وفي السنوات الأخيرة، بدأ اتجاه يلوح في الأفق يرى ضرورة استخدام الآلات في مجال إعداد التشريعات وصياغتها ومراجعتها. ويُفترَض أن استخدامها سيُزيد كفاءة التشريع وفعاليته فضلا عن زيادة الشفافية في عملية اتخاذ القرار. بل يذهب البعض إلى أبعد من ذلك ويعتبر استخدامها خطوة مهمة في طريق تعزيز الحكم الديمقراطي وصُنع قوانين تخدم الشعوب بشكل أفضل.

وقد ظهرت بالفعل برامج كمبيوتر تُستخدم على شبكة الانترنت، مثل برنامج LegisPro، الذي يقدم حلولا تكنولوجية مبتكرة في مختلف عمليات الصياغة التشريعية من خلال إتاحة استخدام تصميم آلي لإعداد التشريع وتعديله، ويسمح بالعمل المشترك بين أكثر من صائغ في الوقت نفسه؛ ما يجعل من السهل تعقب أي تعديل يتم إدخاله من أي منهم، وبذلك يقلل احتمال حدوث أخطاء.

وفي ألمانيا، تُستخدم ، في الوقت الحالي، برمجيات آلية وتطبيقات مختلفة في كل مراحل العملية التشريعية بدءا من تقديم الاقتراح الأول للتشريع وانتهاءا بإقراره. وفي سنة 2016، تم اعتماد مشروع للتشريع الإلكتروني يُسمّى "e-legislation" للتغلب على مشكلة عدم اتباع نسق موحد في البرمجيات المستخدمة حاليا في العملية التشريعية في كل من الحكومة، ومجلس النواب Bundestag، ومجلس الشيوخ Budesrat، وفيما بين هذه الجهات. وقد بدأ المشروع بحصر كل العمليات التي تتم في مجال التشريع، ومع تقدم سير العمل فيه، وُضعت تطبيقات أولية ستصبح متاحة من خلال منصة متكاملة. كذلك، وُضع معيار standard للمواصفات القياسية للبيانات المتعلقة بمضمون التشريع يٌسمّى LegalDocML.de لإعادة إنشاء الترتيبات القانونية الإجرائية والبنية العامة للنصوص التشريعية في صيغة يُمكن للآلات أن تقرأها حتى يمكن التعامل معها وإقرارها عبر عمليات معينة. ولذلك يُعتبر هذا "المعيار" حجر الزاوية لمشروع "التشريع الإلكتروني" الألماني واستخدام الآلات في العمليات المتصلة بالتشريع.

وفي بريطانيا، في نوفمبر 2023، شَكّل نائب رئيس الوزراء "فريق دعم الذكاء الاصطناعي" المكون من نخبة من الخبراء الفنيين مُهمتهم، من بين أشياء أخرى، مساعدة الوزارات في استخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز صياغة التشريعات في داخل الحكومة البريطانية ومساعدة الصائغين القانونيين. وأصدر الفريق، بالفعل، برنامج كمبيوتر يُحلل ويُفسر البيانات يُسمّى Lex مُصَمّم لتسهيل عمل الصائغين التشريعيين. ومن خصائصه البارزة القدرة على البحث بسرعة وتحديد أماكن المواد التشريعية ذات الصلة بالتشريع محل الدراسة بطريقة لا تستطيع الطرق التقليدية للبحث أن تفعلها.

وفي الولايات المتحدة، يتخذ مجلس النواب الأمريكي خطوات مهمة تجاه تحديث عملياته التشريعية. ففي 21 يونيو 2024، أصدر مكتب الأمين العام ومكتب المستشار التشريعي بالمجلس "طلب معلومات" للحصول على حلول تتعلق بالتكنولوجيا والبنية العامة للتشريع والعمليات ذات الصلة. وتهدف هذه المبادرة- التي تُعرف باسم "الدراسة التعاونية للصياغة التشريعية"- ليس فحسب لتحديث البرمجيات المستخدمة في العملية التشريعية ولكن أيضا لإعادة التفكير في العملية برمتها بما فيها طريقة إعداد مشروع القانون ومراجعته وإصداره. ويسعى المجلس من وراء ذلك لتحسين قدرات الصياغة التشريعية والنظر في الأدوات والعمليات والتكنولوجيات المتاحة من خلال وضع نظام شامل جديد لإدارة العملية التشريعية.

ومن جهة أخرى، يرى البعض أن استخدام الآلات غير ملائم للعملية التشريعية لأنها، بطبيعتها، عملية لصنع القرار، واستخدام الآلات فيها ربما يشكل مخالفة للدستور الذي ينص على أن السلطة التنفيذية تقترح التشريع والسلطة التشريعية هي التي تقره. كذلك، يتطلب الأمر معرفة خاصة بموضوع التشريع والمصالح ذات الصلة والأوضاع الواقعية والقانونية السائدة؛ وكل ذلك لا يمكن للآلات أن تكون على دراية به. وفي رأيهم، أن العملية التشريعية تتضمن متطلبات ذات طابع متجانس وأخرى ذات طابع مُغاير. ومثال للأولى، المجالات المتعلقة بالصياغة التشريعية، ومثال للثانية، عملية صنع القرار والمتطلبات الدستورية. ومن ثم، يجب التركيز على مساعدة الآلات في عملية الصياغة التشريعية فقط باعتبار أنها تتسم بطابع متجانس.

وتمشيا مع هذا الاتجاه، في هولندا، رغم تزايد الأبحاث حول تطوير تطبيقات الكمبيوتر في العديد من مجالات القانون، يسود الاعتقاد بأن احتمالات تطبيقها في مجال صُنع القوانين ضعيفة لأن طبيعة التشريع نفسه تتعارض مع أشكال برامج الكمبيوتر، فضلا عن تعارض هذه التطبيقات مع مبادئ المساواة أمام القانون، والأمن القانوني، وعملية صنع القرار بطريقة ديمقراطية.

وفي رأينا، أنه رغم أن استخدام الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي في المجال التشريعي أصبح أمرا حتميا إلا أنه ينبغي ألا يمتد ليشمل العملية التشريعية برمتها بشكل مستقل عن العنصر البشري. ويُفضّل أن يقتصر فقط على المساعدة في عملية إعداد التشريعات وتنظيمها وصياغتها لزيادة فعاليتها وكفاءتها. ومثال ذلك، استخدام نموذج توجيهي لتقرير بحثي مُنظم، بدلا من المذكرة الإيضاحية بوضعها الحالي، يُبيّن الأسباب الموجبة للقانون، والسلوكيات التي تتسبب في حدوثها، والأطراف الذين يشكلون بسلوكياتهم المشكلة التي يسعى القانون لحلها، والتدابير التي تحقق أكبر قدر من المكاسب وأقل قدر من الضرر.

كذلك، يمكن استخدام الآلات كعنصر مُساعد في عملية الصياغة التشريعية من خلال تحديد مضمون التشريع، أولا، ثم دعوة لجنة مُكونة من خبراء فنيين ومُبرمجين لتحديد الشكل الأمثل للتطبيق العملي. ونقطة البدء، من وجهة نظري، هي إعداد أدلة عملية للصياغة التشريعية تتناول، على سبيل المثال، التصميم النموذجي لمشروع القانون، العناصر الرئيسة للقانون والقواعد التي تحكم صياغة كل منها؛ الكلمات والعبارات والتراكيب التي ينبغي استخدامها وتلك التي ينبغي عدم استخدامها؛ الصياغة النموذجية لمواد الإصدار، ومواد العقوبات، والمواد المنشئة لكيانات قانونية، قواعد الصياغة؛ ومنها قاعدة الموضوع الواحد؛ قواعد الوضوح وحُسن السبك، قواعد الإحالات، وغيرها. وقد سبقتنا إلى ذلك دول كثيرة وضعت بالفعل توجيهات أو أدلة حول أسلوب الصياغة؛ منها، الولايات المتحدة، وكندا، وهولندا، وألمانيا، والنمسا، وبلجيكا، وغيرها. ويكفي أن نشير إلى أنه في الولايات المتحدة، تتضمن دساتير 43 ولاية- من أصل 50 ولاية- قواعد لصياغة التشريعات. وتشكل هذه القواعد، في الولايات المتحدة وغيرها من الدول سواء وردت في الدساتير أو في أدلة أو توجيهات، اللبنة الأولى لاستخدام الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي لتحسين الصياغة التشريعية. وعلينا أن نتحرك فورا في هذا الاتجاه قبل فوات الآوان.