ألعاب الصياغة (2) … “الحوار السُقراطي”

ألعاب الصياغة (2) … “الحوار السُقراطي”

45. ألعاب الصياغة (2) ... "الحوار السُقراطي"
محمود محمد علي صبره
استشاري الصياغة التشريعية للأمم المتحدة والبنك الدولي

في سعيه لمعرفة الحقيقة، كان الفيلسوف اليوناني "سُقراط" يُثير الجدل حول المُعتقدات المُسلم بها وذلك عن طريق إجراء حوارات بطريقة السؤال والجواب، وقد عُرفت هذه الطريقة باسم "الحوار السُقراطي". فلحل مشكلة ما، كان يُحللها إلى مجموعة من الأسئلة تُوصّل إجاباتها تدريجيًا إلى الحقيقة. ويُعتبر سقراط أول من ابتكر هذه الطريقة التي أصبحت في عصرنا الحالي تُستخدم، بشكل مختلف، كأداة مفيدة لجمع المعلومات عن الموضوع محل البحث.

وفي العصر الحديث، انتشر استخدام هذه الطريقة، خصوصا في مجال كتابة الأخبار الصحفية، لتقديم رواية كاملة عن الخبر الذي ينقله الصحفي، وأصبحت تُدرّس في كليات الإعلام مع التركيز على خمسة أسئلة؛ هي: من Who، وماذاWhat ، ولماذا Why، ومتى When، وأين Where، وكيف How. وتُعرف هذه الطريفة باسم the 5-Wh and 1-H questions نسبة إلى الحروف البادئة لكل سؤال في اللغة الإنجليزية. وتبدو هذه الأسئلة كما لو كانت نوعا من الاستجواب، وما يُميّزها أن كل منها يطلب تقديم معلومات معينة بحيث تغطي الإجابات كل محاور الموضوع. وتكتسب هذه الطريقة أهميتها من كَوْنها تتعلق بشكل فعال بالعناصر الجوهرية لأي خبر. فإذا استطعت أن تجيب عنها تكون قد نقلت صورة كاملة عنه.

ولم يكن مجال الصياغة القانونية، بشكل عام، بمنأى عن التأثر بهذا الاتجاه. فقد انتشر في الولايات المتحدة أسلوب صياغة العقود بطريقة طرح الأسئلة والإجابة عنها، وذلك بأن تتم صياغة عنوان كل مادة في شكل سؤال، ثم تتم الإجابة عنه. ومن أمثلة ذلك، طرح الأسئلة الآتية: ما موضوع العقد؟ لماذا تم الدخول فيه؟ ما المبلغ المطلوب دفعه؟ ما طريقة الدفع؟ ما إجراءات الدفع؟ ما الإقرارات والضمانات التي يقدمها البائع؟ ما التزاماته الجوهرية؟ ما إقرارت وضمانات والتزامات المشتري؟ من المُلزم بدفع تكاليف الشحن والتأمين؟ كيف سيتم الدفع؟ إلخ.

ومن مزايا هذه الطريقة، أنها تركز انتباه الصائغ على الإجابة عن السؤال المطروح، ومن ثم، تُجبره على أن يُغطي في إجابته كل جوانبه، من ناحية، ولا يحيد عنه من ناحية أخرى. إنظر، مثلا، إلى سؤال: ما التزامات البائع؟ إن الإجابة عنه ستُجبر الصائغ على أن يغطي كل التزامات البائع، من ناحية، وتمنعه من الانحراف عنها إلى تناول أية أمور غيرها، من ناحية أخرى. كذلك، تُعتبر أداة مُفيدة في مراجعة العقد والكشف عن أية ثغرات في نصوصه. وفضلا عن ذلك، كَوْن أنها أداة بسيطة يسهل تذكرها، فإنها تساعد على الكتابة بسرعة.

وفي رأينا، أنه يُمكن استخدام هذه الطريقة، أيضا، في مجال الصياغة التشريعية في إعداد مضمون مشروع القانون وصياغته. ففي مرحلة إعداده، يُمكن، مثلا، طرح الأسئلة الآتية: ما المشكلة التي يسعى القانون لحلها؟ وما أسبابها؟ وما الأدلة المنطقية التي تثبت وجودها وحجمها؟ ومن الأطراف التي تتسبب بسلوكياتها في حدوثها؟ ولماذا وُضع مشروع القانون؟ وما التدابير التي يتضمنها لتحقيق أهدفه؟ وكيف سيتم تنفيذه؟ وما الآثار التي يمكن أن تترتب على تنفيذه؟ إلخ.

وعند صياغة مشروع القانون، يُمكن طرح الأسئلة الآتية، على سبيل المثال لا الحصر: ما عنوان القانون؟ وما علاقته بمضمونه؟ ما الفقرات التي يجب أن يتضمنها قسم الديباجة؟ ما المصطلحات التي تحتاج إلى تعريفها؟ ما الهدف من القانون؟ من الذين يسري عليهم؟ ما المجالات التي يسري فيها؟ ما المبادئ التي تخضع لها أحكامه في تفسيرها وتطبيقها؟ ما الالتزامات التي يجب على المخاطبين به تنفيذها؟ ما الشروط والقواعد والإجراءات الواجب التقيد بها؟ ما المهام والمسئوليات التي يتعين على الجهة المناط بها التنفيذ أداؤها؟ وكيف تتخذ قراراتها؟ وما إجراءات التظلم منها؟ كيف نضمن التزام المخاطبين بالقانون أحكامه؟ إلخ.

كذلك، يُمكن استخدام هذه الطريقة في مراجعة وتدقيق كل تدبير تشريعي ورد في القانون. إنظر، مثلا، إلى هذا النص الذي ورد في تشريع أمريكي "يُطعّم كل طفل دون سن الخامسة من عمره." إن طرح الأسئلة سيكشف ثغرات عدة في صياغته. دعونا نتساءل: مَن المخاطب بهذا النص؟ هل هو الطفل الذي لا يتجاوز عمره خمس سنوات؟ أم وَلِيّ الأمر؟ أم المدرسة؟ أم الجهة الصحية المختصة؟ لا احد يعرف. ولماذا يجب تطعيمه؟ وما الأمراض التي سيتم تطعيمه ضدها؟ وأين ومتى وكيف يتم تطعيمه؟ ولا شك أن طرح هذه الأسئلة سيساعد في سد الثغرات الموجودة في هذا النص، ومن ثم، يُساعد في تحقيق الهدف من القانون.

وفي عصر التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي يُعتبر إتباع هذه الطريقة ليس مجرد اختيار يمكن تطبيقه أو تركه، بل ضرورة حتمية لمواكبة التطورات في عصر تحل فيه الآلة محل الإنسان في مختلف المجالات.