46. ألعاب الصياغة (3) ... تبادل الأدوار وإجراء البروفات
محمود محمد علي صبره
استشاري الصياغة التشريعية للأمم المتحدة والبنك الدولي
يُستخدم مصطلح "تبادل الأدوار"، في مجال الدراما النفسية، ومثاله، عندما تتقمص الإبنة دور أمها، والأم دور بنتها، وتُحاكي كل منهما الآخرى في التصرف وأسلوب المعاملة. وفي راي "لويس يابلونسكي" الذي ابتكر هذه الطريقة أنها تساعد على فهم الشخص لطريقة تصرف الطرف الآخر، فتصبح الإبنة أكثر إدراكاً لشعور أمها تجاهها وأكثر فهما لطريقة تعاملها معها، والعكس صحيح.
ومن المُفيد استخدام طريقة "تبادل الأدوار" في مجال الصياغة العقدية. ومثال ذلك، أن يضع المُشتري نفسه مكان البائع ويقرأ نصوص العقد كبائع، وليس كمشتري. وأن يؤدي البائع دور المُشتري ويقرأ نصوصه كمُشتري. ولا شك أن ذلك سيتيح لكل منهما التعرف على المزايا التي يُعطيها العقد للطرف الآخر ويكشف الثغرات التي قد تكون موجودة ضد مصلحته.
وربما تكون هذه الطريقة مُفيدة أيضا في مجال الصياغة التشريعية. ولنفرض، مثلا، أن مشروع القانون المعروض للمراجعة يهدف إلى تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر. إن تقمص عضو البرلمان لدور المالك، مرة، والمستأجر، مرة أخرى، سيكشف أوجه القصور فيما يتعلق بحقوق والتزامات كل منهما والثغرات التي يمكن أن يستغلها كل منهما ضد الآخر. والأمر نفسه، إذا كان مشروع القانون المعروض للمراجعة قانون العمل، أو قانون الاستثمار، وخلافه.
ومثال آخر، لنفرض أن مشروع القانون يهدف إلى حماية المستهلك، يُمكن لعضو البرلمان أن يختبر مدى كِفاية وكفاءة مشروع القانون عن طريق تقمص دور المُنتج، تارة، والمُستورد، تارة ثانية، والتاجر، تارة ثالثة، والمُستهلك نفسه، تارة رابعة، إلخ. وفي كل مرة، عليه أن يسأل نفسه: هل مشروع القانون يستطيع أن يُهيّئ ظروفاً تشجعه على أداء دوره؟ وهل التدابير التي يُراد منها أن تشجعه على إلتزام القانون من المرجح أن تقضي على العوامل المُسببة للمشكلة التي وُضِع لحلها؟ وعند تقمص كل دور، يُمكن رصد الثغرات التي يتم كشفها، ومواطن القصور ذات الصلة بكل تدبير يتضمنه مشروع القانون وعلاجها.
أما أسلوب إجراء "البروفات" فيُستخدم، عادة، قبل تقديم العروض النهائية للأعمال المسرحية والموسيقية وغيرها للتَّحقّق من أداء كل مُمثل أو عازف لدوره بشكل جيد. ولم تعد يقتصر إستخدامها على مجال الدراما المسرحية فقط بل أصبح يمتد ليشمل مختلف المجالات بما فيها مجال الأعمال. ومثال ذلك، في حال ترسية المشروعات من جهة حكومية على مقاول، تعقد الجهة المتعاقدة، عادة، اجتماعا مع المُتعاقِد معها قبل البدء في تنفيذ العقد لتوضيح التزاماتها والتزاماته ومناقشة إجراءات تنفيذه بالتفصيل، وإثبات ما يتم التوصل إليه في محضر الاجتماع. وفي الواقع، يُعتبر ذلك بمثابة "بروفة" لما سيحدث بعد البدء في تنفيذه.
وكما يحدث في مجال الأعمال المسرحية والسينمائية، يُمكن أن تكون طريقة إجراء "البروفات" مُفيدة أيضا في مراجعة مشروعات القوانين. ومثال ذلك، عقد اجتماعات بين مجموعة من المُلاك والمستأجرين، بعد إعداد مشروع قانون عن تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر وقبل إقراره من البرلمان. وتؤدي كل مجموعة دورها وفق ما تنص عليه التدابير المُقترحة فيه لكل منهما، وخلال المناقشات التي تجري بينهما، يتم رصد ردود الأفعال وربما أية ثغرات أو نتائج عكسية لم تكن متوقعة وقت إعداده وإدخال التعديلات اللازمة. وتُعتبر هذه الاجتماعات كما لو كانت "بروفات" لاختبار التدابير النهائية التي سيتضمنها القانون. وقد يٌقال إن الأمر لا يختلف كثيرا عن جلسات الاستماع التي تُعقد، عادة، مع أصحاب المصالح. لكن هذا القول غير صحيح، لأن جلسات الاستماع تُعقد قبل التوصل إلى صيغة لمشروع القانون، وما يحدث فيها يُشبه إلى حد كبير ما يحدث في "سوق كبير" حيث يُروّج كل طرف بصوت عال لما يخدم مصالحه ويتشبث بموقفه.
وقد كانت لي تجربة شخصية عندما كنت عضوا في وفد لخبراء البنك الدولي كُلف في سنة 2006 بمراجعة نظم التعاقدات الحكومية مع الجهات التي شاركت في وضعها في ست دول عربية منها مصر بهدف تحسينها. وكانت مادة (1) من قانون المناقصات المصري لسنة 1998 تنص على ما يلي "يكون التعاقد على ....... والأعمال الفنية عن طريق مناقصات عامة أو ممارسات عامة، ويَصدر باتباع أي من الطريقين قرار من السلطة المختصة وفقا للظروف وطبيعة التعاقد."
وعندما سألت مُمثلي الجهة التي أعدت مشروع القانون في اللقاءات التي جَمَعتنا معا: من الذي تخاطبه هذه المادة؟ كانت الإجابة: الجهة الحكومية المُتعاقدة. فقلت: لماذا لا تكون صياغتها كما يلي: "تستخدم الجهة الحكومية المتعاقدة ..." بدلا من "يكون التعاقد". وسألت أيضا عن المقصود بعبارة "الأعمال الفنية"؟ هل المقصود بها أعمال الفنيين كالكهربائي والسباك وغيرهما، أم الأعمال الذهنية الإبداعية؟ فكانت الإجابة "الأعمال الإبداعية" وبعد 12 سنة تم تعريفها بهذا المعنى في قانون التعاقدات العامة لسنة 2018. وعندما سألت: ما الذي تعنيه عبارة إتباع طريق المناقصة أو الممارسة "وفقا للظروف وطبيعة التعاقد"؟ فوجئت بأن أغلب الجهات الحكومية المتعاقدة تتجنب التعاقد عن طريق الممارسة لأنها لا تفهم ما المقصود بهذه العبارة!
ولو كانت أي من طريقة ""تبادل الأدوار" أو "إجراء البروفات" قد إستُخدمت عند مراجعة مشروع القانون لأمكن تجنب كل هذه الثغرات.