الأصول الفنية والقانونية لمراجعة مشروعات القوانين
بالتطبيق على قانون المسئولية الطبية
محمود محمد علي صبره
استشاري الصياغة التشريعية للأمم المتحدة والبنك الدولي
تتطلب مراجعة مشروعات القوانين القيام بخمس عمليات، الأولى، مراجعة الغايات التي يسعى القانون لتحقيقها؛ والثانية، التدابير التي يتضمنها لتحقيقها، والثالثة، تنظيم مشروع القانون، والرابعة، وضوح نصوصه وسهولة فهمها؛ والخامسة، تحليل الأثر المترتب على إنفاذه. وبدون مراجعة هذه العناصر الخمسة لن ينجح القانون في حل المشكلة التي يسعى لحلها.
وعند مراجعة الغايات التي يسعى القانون لتحقيقها، ينبغي التأكد من أنه سيقضي على جذور المشكلة التي يسعى لحلها وليس فقط مظاهرها السطحية. ومثال ذلك، قانون للمسئولية الطبية يُركز فقط على حماية الأطباء من المساءلة وليس تجنب حدوث الأخطاء الطبية أو التقليل منها. كذلك، ينبغي التأكد من أنه سيحققها بأكبر قدر من المكاسب وأقل قدر من الخسائر، وأنه يضع في الحسبان ليس فقط الآثار الاقتصادية الناتجة عن تطبيقه بل أيضا الآثار الاجتماعية والصحية والبيئية وغيرها. والأهم من ذلك كله، ينبغي ألا يسمح لفئة معينة أن تسطو عليه وتُسخّره لمصلحتها على حساب مصالح فئات أخرى في المجتمع. ومثال ذلك، أن يأخذ قانون المسئولية الطبية بعين الاعتبار مصالح الفئات الطبية على حساب سلامة المرضى.
ثانيا، عند مراجعة التدابير التي يتضمنها مشروع القانون، ينبغي بحث حجم المشكلة التي يسعى لحلها والتأكد من أنها تمثل ظاهرة تؤثر على قطاع كبير من المجتمع ولا تصلح لعلاجها أية بدائل أخرى غير البديل التشريعي. كذلك، ينبغي التأكد من أنها مُبرّرة تبريرا منطقيا ومدروسة بشكل جيد. ومن ثم، ينبغي أن تكون نقطة البدء هي جمع إحصائيات عن الأخطاء الطبية من جهة حجمها ونوعها والأطراف المتسببة فيها والآثار المترتبة عليها. وبدون الاقتناع بمبررات القانون لن يُنفذ إلا من خلال الردع والعقاب. ولذلك، سيُخالفه الناس بمجرد أن تُتاح لهم الفرصة لذلك.
كذلك، ينبغي التركيز على فحص التدابير التي تخاطب فئتين رئيستين؛ الأولى، المخاطبون الرئيسيون بالقانون؛ وهم الممارسون الطبيون والمنشآت الصحية، من جهة، والمرضى من جهة أخرى، والثانية، الجهة المشرفة على التنفيذ؛ وهي الجهات الصحية المختصة. وفيما يخص المخاطبين الرئيسيين بالقانون، ينبغي التأكد من أنه يُخاطب كل من يُمارس مهنة لها علاقة بحدوث هذه الأخطاء وأن يتضمن قسما خاصا لكل منهم؛ ومنهم الأطباء بمختلف تخصصاتهم، والصيادلة، وأخصائيو المختبرات الطبية والعلاج الطبيعي، والمنشآت العلاجية، بل وحتى الطاقم الإداري فيها، وغيرهم. فلا يجوز، مثلا، الجمع بين التزامات الطبيب والصيدلي معا إلا من جهة الالتزامات العامة التي تخصهما معا؛ أو الالتزامات الخاصة للطبيب مع الالتزامات الخاصة للمنشأة الطبية في قسم واحد، لأن كلا منهما يخضع لالتزامات خاصة تختلف عن الآخر.
ومن المهم أيضا مراجعة مهام وأدوار الجهة المُشرفة على التنفيذ؛ وهي وزارة الصحة، والتأكد من أنها تؤدي مهامها بشكل استباقي وليس بأسلوب رد الفعل. على سبيل المثال، بدلا من أن تنتظر حتى تصلها شكاوى، يُمكن أن ينص مشروع القانون على إلزام المنشآت العلاجية بتقديم تقارير دورية عن حالات الأخطاء الطبية ومعدلاتها وإعلان هذه التقارير واتخاذ الإجراءات الإصلاحية تجاهها، وفرض عقوبات عليها في حال مخالفتها لهذه الإجراءات. وربما يكون من المناسب تقويمها على حسب معدل الأخطاء التي تحدث فيها بحيث يتم تجديد ترخيصها على حسب مستوى أدائها على مقياس من نجمة حتى خمس نجوم. ويُمكن أيضا إلزام الجهة الصحية المختصة بأداء عمل من صميم أعمالها؛ وهو وضع بروتوكولات طبية ومعايير مهنية للأداء لكل مرحلة من مراحل العلاج حتى يُمكن في ضوئها محاسبة من يُخطئ من الناحية المهنية على أساسها.
كذلك، ينبغي التأكد من أن القانون لا يُفوّض السلطة التنفيذية في وضع لوائح أو قرارات تنفيذية لأمور تفصيلية لها أهمية جوهرية بالنسبة لموضوعه، بل يجب إدراج هذه التفاصيل في القانون نفسه. ومن المهم أيضا التأكد من أن التدابير التي يتضمنها القانون تنسجم مع المبادئ الدستورية الخاصة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية؛ والقوانين الأخرى المعمول بها في الدولة؛ والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها؛ والقيم الأخلاقية والاجتماعية والمُثل العليا السائدة في المجتمع.
ثالثا، يرتبط تنظيم مشروع القانون بمضمونه. فإذا كان مُنظما تنظيما جيدا كان من السهل التعرف على مضمونه، والعكس صحيح تماما. وللتأكد من تنظيمه تنظيما جيدا، ينبغي التحقق من جودة تقسيمه وتصنيف مواده وتتابع أحكامه. وتُمثل هذه العناصر الثلاثة عناصر التنظيم الجيد. ومثال على التقسيم الجيد، تقسيم القانون إلى فصول، والفصول إلى مواد، والمواد ربما إلى فقرات، إلخ. ويعني التصنيف، جمع كل المواد ذات الصلة بعضها مع بعضها في قسم واحد. ويعني التتابع أن يكون ترتيب الفصول والمواد منطقيا.
ومثال على سوء التصنيف أن يتضمن قانون الإصدار أحكاما موضوعية تتمثل في فرض التزامات على المخاطبين بالقانون، أو أن يُخصّص فصل واحد لالتزامات كل من ممارسي المهن الطبية والمنشأة الطبية معا؛ أو أن يخلو مشروع القانون تماما من أية أقسام منفصلة لبعض المخاطبين به. فكيف يُنفذ الصيدلي، مثلا، الأحكام الخاصة التي تخصه في القانون إذا لم يسهل عليه الوصول إليها؟
ولا يُمكن وصف مشروع قانون بأنه جيد بينما يكون ناقصا، أو من الصعب التعرف بسهولة على التدابير التي يتضمنها، أو من الصعب فهمه. ومن ثم، يجب أن يضمن التنظيم أن يكون القانون شاملا، ويجعل من السهل الوصول إلى أحكامه، ويسهل فهم مضمونه. وتمثل هذه العناصر الثلاثة أساس جودة مشروع القانون. ويكون مشروع القانون شاملا إذا تضمن العناصر الآتية: 1) عنوان القانون؛ 2) الديباجة (التمهيد)؛ 3) تعريفات وأحكام عامة؛ 4) المخاطبون الرئيسيون به؛ 5) الجهة المناط بها الإشراف على تنفيذه؛ 6) التدابير التي تجعل الناس يلتزمون أحكامه؛ 7) تسوية النزاعات الناشئة عن تنفيذه؛ 8) مصادر تمويل التدابير التي يتضمنها؛ 9) مواد الإصدار.
ويُمكن معرفة ما إذا كان مشروع القانون سهل الوصول إلى أحكامه، من عدمه، من خلال التعرف على عنوانه الرئيس وعناوين فصوله وربما عناوين مواده. ولتسهيل وصول مُستخدم القانون إلى ما يخصه من أحكام، يُمكن وضع فهرس للمحتويات، واستخدام الحواشي الجانبية، واستخدام الملاحق لتجميع التفاصيل الفرعية بدلا من وضعها في متن القانون. ومثال ذلك، بدلا من وضع ديباجة طويلة للقانون، يُمكن إدراج القوانين المحال عليها في ملحق مع الاكتفاء فقط بالإحالة عليها في الديباجة.
رابعا، يكون القانون سهل الفهم إذا كانت مواده مُصاغة بحيث تُوضّح "من" يفعل "ماذا". و تعني "من" الشخص الذي تخاطبه المادة، وتعني "ماذا" الفعل المنصوص عليه. ومن المهم توضيح "الفرْض"، أو الحالة، التي يُطبق فيها الحُكم، والقيود والشروط وربما الاستثناءات ذات الصلة. ويعتقد أغلب الناس أن القضاة والقانونيين هم وحدهم الذين يُمكنهم فهم ما يقوله القانون. لكن إذا لم يفهم من يُخاطبهم القانون، ولم تفهم أنت، بسهولة ما ينص عليه فهذا يعني أن صياغته سيئة.
خامسا، يَصدر التشريع لحل مشكلة يُعاني منها المجتمع ويُتوقع أن يتضمن تدابير تؤدي إلى حلها. لكنه قد يوضع بشكل مُتسرّع أو تحت ضغوط جماعة مصالح معينة. ومن هنا، ظهرت فكرة ضرورة إجراء تحليل مُسبق للأثر التشريعي RIA لقياس المنافع والتكاليف الناتجة عن التدابير التي يتضمنها، وبحث البدائل المتاحة، سواء للتشريع نفسه، أو للتدابير التي يتضمنها، واختيار البديل الأفضل. ويقيس التحليل التكاليف الاقتصادية والاجتماعية والصحية والبيئية، بل والعبء الإداري، الناتج عن التشريع بشكل كمي وكيفي لضمان تحقيق أكبر قدر من المنافع للمجتمع وأقل قدر ممكن من الضرر.