السياسي والمُشرّع والصائغ
محمود صبره
استشاري الصياغة التشريعية للأمم المتحدة والبنك الدولي
ينشأ القانون نتيجة عمل مشترك بين ثلاثة أطراف؛ هي: السياسي (مُمثلا في السلطة التنفيذية) والصائغ والمُشرّع. فالسياسي هو الذي يُحدد السياسة التي تعتمدها الحكومة لتحقيق غايات في أمور محل اهتمام من المجتمع. والصائغ هو الذي يُحوّل مضمون هذه السياسة إلى قواعد وإجراءات في شكل مشروع قانون. والمُشرّع هو الذي يعتمد مشروع القانون ويُعطيه الصفة الشرعية ليُصبح قانونا نافذا. ومالم تُصاغ السياسة في شكل قانون، لا يلتزم المحكومون ولا السلطة التنفيذية بتنفيذها.
وفي التقليد البريطاني، يُحدد المسئولون الوزاريون "مضمون السياسة"، على حين يقتصر دور الصائغين على وضعها في الشكل القانوني الصحيح، ويتولى ذلك مكتب المستشارين البرلمانيين الملحق بالحكومة. ومن مزايا هذا التوجه أن كلا من السياسي والصائغ يعمل في حدود اختصاصه؛ فالسياسي هو الأقدر على تحديد مضمون السياسة، والصائغ هو الأقدر على تحويله إلى قواعد مُلزمة. ومن عيوبه، أنه يفصل بين الطرفين، وكل منهما يعمل بمعزل عن الآخر؛ إذ بينما يُركز السياسي على مضمون القانون فقط، يُركز الصائغ على شكله دون أن يُشارك في وضع مضمونه.
أما في التقليد الفرنسي والدول التي تحذو حذوه، فيُحدد المسئول السياسة ويصوغ القانون في الوقت نفسه. وعادة، تنشأ أغلب مشروعات القوانين في الجهات الحكومية ويصوغها القانونيون التابعون لها، ويتخلل ذلك عقد اجتماعات للجان تجمع بين الفنيين المتخصصين والقانونيين، ومشاورات مع أصحاب المصالح. ورغم أن هذا الأسلوب يجمع بين السياسي والصائغ معا، لكن من يصوغ مشروع القانون، غالبا، لا تكون لديه القدرة والمهارة الفنية المتخصصة للصياغة التشريعية، ناهيك عن أن تعدد الجهات التي تصوغ مشروعات القوانين دون وجود قواعد مُوحّدة لصياغتها يؤدي في النهاية إلى خليط من القوانين كل منها يتبع طريقة مختلفة في صياغته عن الآخر.
وعلينا أن ندرك أن الصياغة التشريعية علم وفن يحتاج إلى تعليم وتدريب متخصص ولا يقدر على ممارستها سوى من تلقوا ذلك التعليم والتدريب. ويمكن توفير ذلك عن طريق إستحداث قسم في كليات القانون يتولى هذه المهمة. كذلك، يجب توفير التدريب المستمر على الصياغة التشريعية لأمناء اللجان في المجالس النيابية بحيث يكونوا قادرين على مساعدة أعضاء البرلمان على إقتراح القوانين. وتجدر الإشارة إلى أنه في الولايات المتحدة يُخصّص لكل عضو في الكونجرس موارد مالية تضمن له أن يستعين بصائغين محترفين.
وفي رأينا، أنه ينبغي إشراك الصائغ مُبكرا في مرحلة مناقشة مضمون السياسات عند وضعها وأن لا يُترك الأمر كله للقانونيين في الجهة التي تبادر إلى إقتراح مشروع القانون. وفي ذلك، يقول الفيلسوف البريطاني "بيتر وِنش" "إن صانع الفطير لا يُفكر أولا في كيفية إعداده ثم يخبزه بعد ذلك، لكنه يُعدّه ويخبزه في الوقت نفسه." فالشكل والموضوع، أو الكلمات والأفكار، مرتبطان بعضهما ببعض ارتباطًا وثيقـًا بحيث يجب عدم الفصل بينهما؛ فهما ممتزجان معا لدرجة أن تغيير الكلمات يُغيّر الفكرة، مثلما يتطلب تغيير الفكرة تغيير الكلمات.