القصور التشريعي ودور القاضي في سد النقص فيه
محمود محمد علي صبره
استشاري الصياغة التشريعية للأمم المتحدة والبنك الدولي
مهما كان التشريع كاملا، يظل مشوبا بالقصور لأن مُشرّعه يظل قاصرا عن استيعاب كل التغييرات الجوهرية التي تدخل على الأوضاع والمفاهيم السائدة وقت وضعه. ويُقصد بالقصور التشريعي عدم وجود نصوص تشريعية تنطبق على الحالة المعروضة على القاضي (القصور الكلي)، أو عدم ملاءمتها للأوضاع السائدة وقت تطبيقها، أو مخالفتها للدستور، أو عدم اكتمالها، أو إذا ترتب على تطبيقها إلحاق ظلم فادح لم يكن تحت بصر وبصيرة المُشرّع (القصور الجزئي).
والأصل، أن اختصاص القاضي ينحصر في تطبيق النصوص التشريعية واجبة التطبيق وليس له أن يخالفها أو يطبق قواعد لم ترد فيها. وتنشأ المشكلة عندما يواجه القاضي حالة من القصور الكلي أو الجزئي للنصوص التشريعية، فما الذي يتعين عليه أن يفعله؟ وما الوسائل التي يمكنه استخدامها؟
وفي أغلب الدول العربية، تختص هيئة قضائية بممارسة الرقابة على القوانين. وفي مصر، لا تراقب المحكمة الدستورية العليا القصور الكلي وإنما تباشر رقابتها الكاملة على القصور الجزئي باعتبار أنه يشكل مخالفة دستورية ويحد من فعالية الحقوق والحريات العامة التي ينظمها المُشرّع. لكن، يجوز للقاضي الدستوري أن يدين تقصير السلطة التشريعية ويحثها على التدخل لتنظيم موضوع لم تنظمه أصلا، أو لإكمال النقص في النصوص التي تنظمه.
وإذا تراءى للمحكمة التي تنظر دعوى يتضح خلالها عدم دستورية نص في قانون أو حتى لائحة، أو إذا دفع أحد الخصوم بذلك ورأت المحكمة جدية الدفع، فإن عليها أن تتوقف عن نظر الدعوى وتحيل المسألة الدستورية إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فيها، ويكون حُكمها مُلزما لجميع المحاكم. ويجوز للمحكمة الدستورية العليا أن تنظر من تلقاء نفسها في دستورية قانون أو لائحة دون أن تتلقى أي طعن من أحد، وأن تحكم بعدم دستوريته لمخالفته للنظام العام. كذلك، تختص المحكمة الدستورية بتفسير النص التشريعي. ومن الوسائل التي يمكن للقاضي الاستعانة بها في حالة القصور الجزئي، تفسير النص، ليس على حسب معناه العادي، بل على حسب دلالته وفق إرادة المُشرّع بصورة تسمح له بإكمال النقص الذي يعتريه.
وفي الواقع، يمارس القضاء العادي دورا غير مباشر في التشريع من خلال القرائن القضائية التي يستنبطها من القضايا التي تنظرها المحاكم. وقد تتحول القرينة القضائية إلى قرينة تشريعية عن طريق النص عليها في قانون. بل قد تتحول القرينة القضائية إلى مبدأ دستوري؛ ومثال ذلك، قرينة البراءة التي تقضي بأن "المتهم بريء حتى تثبت إدانته"، التي كانت في الأصل قرينة قضائية ثم تحولت إلى مبدأ متأصل في الدستور. ومن ذلك أيضا النظريات التي ابتدعها القضاء الإداري وتحولت بعد ذلك إلى نصوص تشريعية؛ ومنها نظرية القوة القاهرة ونظرية الظروف الطارئة وغيرهما.
وفي رأينا، أنه ينبغي أن تكون من بين مهام السلطة التشريعية متابعة المبادئ القضائية المستحدثة وأحكام المحكمة الدستورية العليا التي تتعلق بتفسير القوانين وتنبه إلى ما يعتريها من قصور لإكمال النقص فيها. وعلينا أن نتذكر أن السلطة التشريعية مُلزَمة بممارسة اختصاصها بالتشريع، وعليها أن لا تترك مسائل تتعلق بحقوق الناس وحرياتهم دون تنظيم تشريعي لأنه إن فعلت ذلك، تكون قد أنكرت اختصاصها التشريعي.