المُشرّع والصائغ والقاضي
محمود محمد علي صبره
استشاري الصياغة التشريعية للأمم المتحدة والبنك الدولي
عندما تنشأ مشكلة حول تفسير نص تشريعي، تتجه الأنظار إلى ثلاثة أشخاص: المُشرّع والصائغ والقاضي. فالنص يُجسد إرادة الهيئة التشريعية التي أقرّته، ولذلك، من المهم التعرف عليها، أو بعبارة أخرى، القصد من ورائه. لكن المُشرّع ، عادة، لا يكون هو من صاغ النص، وإنما يمر التشريع بمراحل عدة ويتغير شكله وربما مضمونه من لحظة المبادرة باقتراحه ومرورا بمراجعته وانتهاء بصدوره في شكله النهائي. ومن ثم، من المهم فحص الكلمات التي استخدمها الصائغ والتي يُفترض أنها تُجسد إرادة المُشرّع. وعند الفصل في منازعة تتعلق بتفسير نص ما، تتجه الأنظار إلى القاضي لمعرفة الطريقة التي سيفسربهاالنصعند الفصل في المنازعة.
وعادة، يتم البحث، أولا، عن نية المُشرّعمن خلال الكلمات التي صاغها الصائغ، وثانيا، من خلال الأدوات المُساعدة الداخلية (نصوص القانون نفسه) والأدوات الخارجية (المذكرة الإيضاحية والأعمال التحضيرية)، لكن المهمة لا تكون دائما سهلة؛ إذ يُفترض أن القانون قد مر على صدوره وقت طويل وتغيرت الظروف وقت تطبيقه عنها وقت وضعه، ومن ثم، هل يتم البحث عن نية المُشرّع الحقيقية وقت وضع التشريع وهو ما يُعرف باسم "النية المُفترضة" أم عن "النية المُحتملة" للمُشرّع لو أن التشريع وُضع في ظل الظروف المعاصرة وقت تفسيره.
ويعتبر تفسير النص التشريعي جزءا أساسيا من عمل القاضي. ويُلاحظ أن النص يحتاج إلى تفسيره، غالبا، عند الفصل في منازعة ما.وفي العقود الأخيرة، ظهر اتجاه نحو استخدام "المنهج الغائي" في تفسير النص التشريعي، وبموجبه يتم البحث عن الغاية من التشريع، بدلا من البحث عن "نية المُشرع". ويُستخدم هذا المنهج في محكمة العدل الأوروبية. ويُفرّق بعض الفقهاء بين نية المُشرّع والغاية من التشريع؛ وفي رأيهم، أنالبحث عن "نية المُشرّع" يتم فقط عند تفسير النص التشريعي، لكن عند تطبيقه على الحالة المنظورة، ينبغي أن نبحث عن "الغاية من التشريع".وفي الحالتين، يمكن الاستعانة بالأدوات المساعدة الداخلية والخارجية للتفسير.
وتطبيقا لذلك، قضت المحكمة الدستورية العليا بأن كلمة "الجرائم" التي وردت في مادة (6) من قانون الأحكام العسكرية المعدل بالقرار بقانون رقم 5/1970 التي تنص على أن "لرئيس الجمهورية متى أعلنت حالة الطوارئ أن يحيل إلى القضاء العسكري أيا من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات أو أي قانون آخر..." لا ينحصر معناها، بالنظر إلى الغرض من القانون، في الجرائم التي حددها المُشرّع تحديدا مجردا، بل يتسع مدلولها ليشمل كل جريمة معاقبا عليها قانونا، سواء كانت محددا بنوعها وقت وضع القانون أو بذاتها بعد ارتكابها فعلا.
ومثال ذلك، ما نصت عليه مادة (1554) من القانون المدني الفرنسي من "عدم جواز التصرف في العقار الذي تقدمه الزوجة مهراً لزوجها"، ولم يتعرض المُشرّع للمنقول الذى يُقدم مهرا من الزوجة لأن المنقول، وقتها، لم تكن له قيمة كبيرة. فإذا أخذنا "بالنية المفترضة"، وجب القول بجواز التصرف في المنقول، إذ أن النص على العقار دون المنقول يجعل للمنقول حكمًا مخالفًا لحكم العقار، ولو أراد المُشرّع أن يساوى المنقول بالعقار لنص عليه. لكن إذا أخذنا "بالنية المحتملة"، لجاز القول بأن المنقول أصبح لا يقل أهمية عن العقار في الوقت الحاضر، ما جعله يستحق الحماية نفسها، بحيث لا يجوز التصرف فيه مثلما لا يجوز التصرف في العقار.