حق عضو مجلس النواب اقتراح مشروعات القوانين
محمود صبره
استشاري الصياغة التشريعية للأمم المتحدة والبنك الدولي
هناك مَثل شعبي مصري يقول "إدّي العيش لخبازه ولو ياكل نصه". وتعود قصته إلى أن إحدى السيدات كانت تعجن الخبز في بيتها وترسله إلى الخباز ليخبزه في الفرن، وكان الخباز يقتطع من رغيف العيش أثناء خبزه لقيمة صغيرة ليتأكد من نضجه، فيرجع الرغيف إليها ناقصا. وذات مرة قررت السيدة أن تخبز العيش بنفسها في بيتها لتوفير الخبز الناقص، وكانت النتيجة أن احترق العيش كله! ويُقال هذا المثل للشخص الذي يحاول أن يُمارس مهنة ليست مهنته ولا يعرف خفاياها فيفشل فيما يفعله.
ومثل هذه السيدة، القانوني الذي يصوغ القوانين معتمدا فقط على مهنته وينسى أن الصياغة مهنة مختلفة عن مهنة القانوني، فتكون النتيجة الصياغات المعيبة التي تكتظ بها القوانين بل والدساتير أيضا. ومثال ذلك، النص في الدساتير العربية على حق عضو مجلس النواب اقتراح مشروعات القوانين مع تقييده بشروط تجعل من المستحيل استعماله. والأصل، أن حق العضو اقتراح القوانين، سواء كان ذلك في شكل "مشروع قانون" أو "اقتراح بقانون"، حق فردي وليس جماعي؛ بمعنى أنه يحق له أن يُمارسه منفردا وليس بالضرورة ضمن جماعة.
ومن المبادئ المستقرة أن تنظيم الحق لا يعني تقييده وتعطيله. فلا يجوز إعطاء الحق للعضو وفي الوقت نفسه فرض قيود على ممارسته تصل إلى حد تعجيزه عن استعماله. كذلك، يجب أن يكون النص واضحا ومنسجما مع قواعد اللغة بحيث يسهل تطبيقه وألا تكون هناك حاجة للاجتهاد في تفسيره. ومن القواعد المُستقرة للصياغة أن النص الذي يحتاج إلى تفسير نص معيب. ولكي تكون صياغة النص صحيحة، يجب أن تكون منسجمة مع المبادئ الدستورية، والغاية من التشريع، وقواعد الصياغة، وقبل ذلك كله، يكون من الممكن تطبيقه عمليا.
إنظر، مثلا، إلى مادة (60) من الدستور العراقي لسنة 2005 التي تنص في فقرتها الثانية على أن تُقدّم مقترحات القوانين "من عشرةٍ من اعضاء مجلس النواب، أو من احدى لجانه المختصة." لاحظ أن العدد هنا مُحدّد على وجه القطع، وليس كحد أدنى أو كحد أقصى. ومن القواعد المستقرة في التفسير أن الأرقام قاطعة الدلالة. فإذا قلنا رقم 7 فلا يدخل فيه رقم 6 أو 8 أو أي رقم آخر. ومن ثم، يعني هذا النص، حرفيا، أنه لا يجوز للعضو بمفرده ولا لأي عدد من الأعضاء، سواء أكثر أو أقل، من 10 أعضاء اقتراح القوانين! فهل يمكن أن يكون هذا التفسير قد طرأ على ذهن من صاغ هذا النص؟
ومثال آخر على ذلك، ما تنص عليه مادة (122) من الدستور المصري لسنة 2014 والتي تشترط لكي يمارس العضو حقه في اقتراح "مشروعات القوانين" أن يحصل على موافقة عُشْر أعضاء المجلس البالغ عددهم حاليا (568) عضوا! ونلاحظ، أيضا، في هذا المثال خُلو النص من تحديد حد أدنى أو أقصى لعدد الأعضاء المطلوب موافقتهم على الاقتراح، فضلا عن صعوبة تحديد العدد على وجه القطع، والحكمة من تحديد هذا العدد بالذات.
ولنا أسئلة عدة على هذا النص؛ الأول، أن عُشْر هذا العدد هو 56.8 عضوا! فما عدد الأعضاء المطلوب حصول مُقدم الاقتراح على موافقتهم لكي يتمكن من تقديم اقتراحه؟ هل 56 يكفي؟ أم يُشترط أن يكون 57؟ وهل أكثر من 57 جائز؟ وهل هناك حد أقصى لعدد المؤيدين؟ هنا سنضطر إلى اللجوء إلى قواعد التفسير وفق الغاية من التشريع، بعيدا عن التفسير الحرفي، وقد نصل إلى استنتاج مؤداه أن الغاية من هذا النص هو ضمان جودة الاقتراح المُقدّم. ومن ثم، يعنى النص 57 عضوا على الأقل. لكن تظل لدينا مشكلة تتعلق بالحد الأقصى للمؤيدين.
أما السؤال الثاني فيتعلق، بمعيار الجودة المُتبع وهو المعيار الكمي. فهل يكفي لضمان جودة الاقتراح أن يوافق عليه عدد معين من الأعضاء حتى لو كان كحد أدنى؟ وأيهما الأَوْلى أن يُتبع: المعيار الكمي أم المعيار الكيفي؟ ألا يكون من الأفضل تحديد معايير موضوعية معينة معقولة للاقتراح المُقدم بدلا من اشتراط موافقة عدد معين من المؤيدين؟
ويتعلق السؤال الثالث بالقيود التي تصل إلى حد تعجيز العضو عن ممارسة هذا الحق ومنها اشتراط أن يصوغه في شكل مواد قانونية! إن هذا القيد يفترض أن العضو يستطيع أن يفعل ذلك بمفرده. ألا ينبغي أن يتم تمكينه من أن يفعل ذلك عن طريق توفير طاقم من الصائغين المحترفين يُوفرهم البرلمان له، وهو ما لا يحدث في معظم البرلمانات العربية؟ وقد يٌقال إن الدستور يتيح للعضو أن يقدم "اقتراحا بقانون" بمفرده، لكن في هذه الحالة لا يُقدّم الاقتراح إلى اللجنة النوعية إلا إذا أجازته اللجنة المختصة بالمقترحات، ووافق المجلس على ذلك، كما هو الحال في الدستور المصري. لكن هذا القول مردود عليه بأنه سواء في حالة "مشروع القانون" أو "الاقتراح بقانون" لا يتم تمكين العضو من ممارسة حقه منفردا المنصوص عليه في الدستور، ولا توجد معايير موضوعية تضمن جودة الاقتراح.
ويتعلق السؤال الرابع بالأثر المترتب على اشتراط حصول العضو على موافقة عدد معين على الأقل من الأعضاء المؤيدين لاقتراحه لتقديمه. ألا يُثير ذلك شبهة الإخلال بمبدأ المساواة وعدم تكافؤ الفرص بين أعضاء المجلس لأن فرصة العضو الذي ينتمي إلى حزب الحكومة في الحصول على موافقة ذلك العدد ستكون أكبر من فرصة العضو المُعارض أو المُستقل؟
ومن المُثير للمفارقة أنه بينما تتبنى بعض الدول العربية فكرة ألا يقل عدد مُقدمي مشروع القانون عن عدد معين من الأعضاء (مصر، الجزائر، السعودية، سوريا، العراق، الأردن)، تتبنى دول أخرى نهجا مغايرا تماما مؤداه ألا يزيد عدد مُقدمي الاقتراح على عدد معين من الأعضاء (لبنان، البحرين، الكويت). وترى الدول التي تضع حدا أدنى أن هذا الشرط يضمن جدية الاقتراح المُقدّم. وعلى عكس ذلك، ترى الدول التي تضع حدا أقصى أن ذلك من شأنه أن يمنع التكتل بين أعضاء المجلس لمساندة اقتراح معين بأغلبية كبيرة قد تحول دون ممارسة باقي أعضاء المجلس حقهم في مناقشة الاقتراح أو تعديله أو رفضه، وبالتالي تُصبح مناقشته في الجلسة العامة غير ذي جدوى.
وفي رأينا، أن إشتراط حد أدنى أو أقصى لتقديم العضو اقتراحه، فضلا عن القيود المُشار إليها أعلاه، تُحيط به شُبهة مُخالفة المبادئ الدستورية المُستقرة باعتبار أنه يُقيد إلى حد التعجيز ممارسة عضو البرلمان لحقه منفردا في تقديم اقتراحه. وعلينا أن نُفرّق بين أمرين؛ الأول، تنظيم ممارسة الحق لضمان جدية الاقتراح المُقدّم من العضو، والذي يُمكن أن يتحقق من خلال توفير الصائغين المحترفين لمساعدته، والثاني، تقييد الحق وتعطيله إلى حد التعجيز عن استعماله.
وتجدر الإشارة إلى أن كثيرا من القوانين المُؤثرة في بريطانيا والولايات المتحدة صدرت بناء على اقتراحات مُقدّمة من عضو أو عضوين في البرلمان. ونكتفي بالإشارة إلى قانون "ساربانيز-أوكسلي" لسنة 2002 الأمريكي لمكافحة الاحتيال المالي للشركات، والذي قدمه عضوان فقط وسُمّي بإسميهما؛ أحدهما من مجلس الشيوخ والآخر من مجلس النواب، وكان له أكبر الأثر في نشر مفهوم "الحوكمة" في العالم كله.