صراع الجبابرة في حلبة المحكمة!!
محمود محمد علي صبره
استشاري الصياغة التشريعية للأمم المتحدة والبنك الدولي
مثلما يحدث في حَلبة المصارعة، يقف في حلبة المحكمة ممثل الادعاء في مواجهة ممثل الدفاع؛ كل منهما يحاول التأثير في وجدان القاضي وعقله، وتجري مباراة شرسة يشاهدها الجمهور في قاعة المحكمة ويحاول التكهن بنتائجها. وبدلا من استخدام السيوف، يتسلح كل طرف بأساليب البلاغة والتأثير تارة، وبقوة الحجج القانونية تارة أخرى. والذي يكسب في النهاية هو من ينجح في إقناع القاضي بقوة حُجَجه وعُمق تأثيره في وجدانه.
ويُخطئ من يظن أن المرافعة الشفهية تعتمد فحسب على التأثير في وجدان القاضي عن طريق الارتجال والبلاغة ورفغ الصوت وحركة الجسم والحركات المسرحية التي يؤديها المحامي على خشبة قاعة المحكمة، لأن الأهم من ذلك هو التأثير في عقل القاضي أيضا عن طريق قوة الحجج وقواعد المنطق وأدواته. ولا يتحقق ذلك، إلا عن طريق دراسة القضية وفهمها فهما عميقا وتجهيز الدفوع ووضع استراتيجية جيدة للدفاع وكسب احترام القاضي وتقديره.
ولنا عبرة فيما حدث في محاكمة ابراهيم الورداني أمام محكمة الجنايات المنعقدة في أبريل سنة 1910. كان ابراهيم الورداني قد قتل رئيس الوزراء حينئذ بطرس غالي باشا وضُبط متلبسا وقدم للمحاكمة. وفي هذه القضية، ترافع عن النيابة العامة النائب العام بنفسه عبد الخالق ثروت باشا، وترافع عن المتهم ثلاثة من أشهر المحامين في مصر في ذلك العصر الجميل؛ هم: محمود أبو النصر، وأحمد لطفى، وابراهيم الهلباوي.
وفي مرافعته ممثلا للادعاء العام، قال عبد الخالق ثروت باشا، النائب العمومي وقتها، "لم يكن من قصدي أن أطيل الكلام في الجريمة من حيث ثبوت ارتكابها، فإن المتهم سجل على نفسه بإقراره سواء في التحقيق أو أمام قاضي الإحالة أنه قتل المرحوم بطرس باشا عمدا بعد سبق الإصرار على القتل والترصد له،" وأضاف "الورداني بجنايته قد عمد إلى خرق حرية القوانين السماوية والبشرية. عمد إلى قتل النفس التي حرّم الله قتلها. عمد إلى إزهاق روح بريئة من غير ذنب. عمد إلى حرمان إنسان من أقدس حق له في هذه الدنيا. عمد إلى حرمان عيلة من معيلها، وأمة من رجالها، وحكومة من رئيسها. عمد، وأطاع هواه، وأطلق رصاصته......إن كان الورداني أراد بفعلته أن يخدم بلاده فلقد ساء طريقه إلى هذه الخدمة. إن كان أراد أن يحييها من الجناية فلقد صدع كيانها صدعا، .... وقد كان أمامه لخدمتها طريق من طرق مشروعة."
أنظروا معي كيف حاول عبد الخالق ثروت باشا التأثير في وجدان القاضي عن طريق استخدامه التركيبة التكرارية المتوازنة "عمد إلى......." أكثر من مرة ليرسخ في وجدانه الانطباع بأن المتهم قد ارتكب جريمته عمدا مع سبق الإصرار والترصد. وكذلك تكرار تركيبة "إن كان الورداني أراد ..." وتعتبر التركيبةالتكرارية بحق من أقوى طرق التأثير في الوجدان.
وللحديث بقية في الأسبوع القادم نستعرض فيه فنون المرافعة التي قدمها المحامون الثلاثة..