الجهة المنفذة للقانون .. بين دور المُشرّع ودور القاضي

الجهة المنفذة للقانون .. بين دور المُشرّع ودور القاضي

الجهة المنفذة للقانون .. بين دور المُشرّع ودور القاضي
محمود محمد علي صبره
استشاري الصياغة التشريعية للأمم المتحدة والبنك الدولي

تعطي معظم القوانين سلطات واسعة لجهة ما في السلطة التنفيذية لوضع الأحكام التفصيلية وربما القواعد المكملة اللازمة لتسهيل تنفيذ القانون. وتنشأ نتيجة لذلك مئات الأحكام التفصيلية والقواعد للقانون الواحد! وتشبه طريقة عمل الجهة المنفذة، من جوانب كثيرة، طريقة عمل القاضي. وفي حالات كثيرة، يفشل القانون في تحقيق أهدافه نتيجة لعجزها عن القيام بالمهام المنوطة بها بشكل يتسم بالفعالية والكفاءة. والسؤال هو: من يتحمل مسئولية الفشل؟ الجهة التنفيذية وحدها، أم المُشرّع أيضا؟

وعندما ننظر إلى نجاح أو فشل الجهة المنفذة في مهمتها، ينبغي أن ننظر إليها من خلال السياسات والمعايير التي تتبناها وطريقة تطبيقها وليس من خلال سلطتها فقط. وتعتبر السلطة التشريعية هي المختصة، أصلا، بتحديد تلك السياسات والمعايير وليس السلطة التنفيذية. وبطريق المحاكاة، لا يصلح كمبرر منطقي لخسارة فريق لكرة القدم إحدى المباريات أن يقول مدربه "إن الفريق قد فشل في الدفاع عن مرماه". بل عليه أن يدرس أوجه النقص في خطة اللعب وسلوكيات أعضاء الفريق؛ بدءًا بالجناح الأيسر الذي فشل في تغطية لاعب الفريق المنافس، والحارس الذي أسرع في مغادرة مرماه، والمهاجمين الذين تباطأوا في الرجوع للدفاع. ولا يستطيع المدرب أن يقترح تدابير من المرجح أن تؤدي إلى تحسين أداء الفريق إلا إذا راجع خطة اللعب وسلوكيات أفراد الفريق. وبالمثل، لكي تنجح الجهة المنفذة في مهمتها، يجب وضع القواعد والسياسات والمعايير الواجب اتباعها وطريقة تطبيقها حتى يحقق القانون الغاية منه؛ وهذه مسئولية المُشرّع.

ويعتبر من أسباب فشل القانون في تحقيق الغاية منه، عدم تحديد المعايير التي يمكن أن تطبقها الجهة المنفذة عند وضع الإجراءات والقواعد اللازمة للتنفيذ، ومنحها سلطة تقديرية واسعة في اتخاذ القرار، وكذلك، عدم تحديد المتطلبات الواجب التزامها عند صنع القرار. ومالم يحدد القانون المعايير التى يجب اتباعها عند التنفيذ، قد يتجاهل المسئولون القواعد التي تتعارض مع قيمهم ومعتقداتهم. وربما كان إدراك هذه الحقيقة هو السبب الرئيس الذي يجعل القضاة يكتبون أسباب الأحكام التي يصدرونها. ومثلما يتعين على القاضي كتابة حكمه وتسبيبه، من المفيد أن يشترط المُشرع أن تلتزم الجهة المنفذة بأن تكون قراراتها كتابية ومُسبّبة، مع تحديد الأدلة التي تستند إليها. ومن شأن ذلك أن يضمن صدور قرارات مدروسة ويقلل، في الوقت نفسه، من احتمال اتخاذ قرارات متعسفة. وكما تصبح الأحكام النهائية سوابق قضائية لقضايا مماثلة في المستقبل، يجب أن تكون القواعد التي تضعها الجهة المنفذة مبنية على قواعد سابقة، أو تصبح مُلزمة لها في أية حالات مماثلة في المستقبل.

وفيما يتعلق بالمعايير والقواعد والإجراءات الواجب اتباعها عند التنفيذ، يُخول مشروع القانون، عادة، الجهة المنفذة سلطة وضع لوائح أو قرارات تنفيذية لاستكمال القواعد التي يتضمنها القانون لسد أية ثغرة فيه، وهو اختصاص أصيل للمشرع، ولكن نادرا ما يحدد المُشرع الأوضاع والخطوات التنظيمية والعملية التي ينبغي أن تتبعها الجهة المنفذة. كذلك، نادرا ما يوجب على الجهة المنفذة ضرورة مراعاة المتطلبات اللازمة لصنع قرار غير متعسف، ومنها، أن يتم اتخاذه بموجب قاعدة ما، وبعد استطلاع رأي المنتفعين، وبمراعاة مبادئ الجماعية والعلانية والشفافية والمساءلة في اتخاذ القرار، وأن يكون القرار مكتوبا ومُسببا.

ويعني مبدأ الجماعية في اتخاذ القرار أن لا يتخذ القرار شخص ما بمفرده أيا كان منصبه، بل يجب أن يتم اتخاذه، مثلا، بناء على توصية لجنة، أو بعد استشارة جهة مختصة، أو بعد استطلاع رأي أصحاب المصلحة. ويُجسّد النظام القضائي هذا المبدأ في اشتراط أن يتم تشكيل محاكم الاستئناف من عدد من القضاة، وليس من قاضي واحد، ومن ثم، يتم اتخاذ القرار بطريقة جماعية عن طريق المداولة. وتعني الشفافية أن يتم الإفصاح عن كل المعلومات المتاحة ذات الصلة. وتعني المساءلة مراجعة القرار وإعطاء المتضرر الحق في الاعتراض. وعادة، يُعطي القانون للوزير سلطة تقديرية واسعة النطاق. بيد أنه من الناحية العملية، لا يمارسها إلا مسئولون أدنى من مستواه. ولمحاسبة هؤلاء، يجب أن يكون للشخص المتضرر من هذه القرارات الحق في الاعتراض عليها. وعادة، تتم هذه المساءلة أمام المحاكم. لكن، يُفضل أن يُعطي المُشرّع للمتضرر الحق في الاعتراض عليها في الوزارة نفسها، أمام مسئول أعلى مستوى أو لجنة تشكل أساسا لهذا الغرض بل وأمام الوزير المختص شخصيا. ومن شأن ذلك، ان يخفف الضغط على المحاكم.

ومن المعروف أنه كلما زادت السلطة التقديرية للمسئولين التنفيذيين، زادت فرص استخدامهم لها بما يخدم مصالحهم ومعتقداتهم الشخصية. ولا يؤدي منح سلطة تقديرية واسعة للمسئولين إلى صنع قرار متعسف فحسب، ولكن أيضاً إلى الفساد. وفي حالات كثيرة، يؤدي منح سلطة تقديرية غير محدودة إلى عدم تنفيذ القانون بشكل يتسم بالكفاءة والفعالية. وكلما ارتفعت درجة المسئول التنفيذي زاد احتمال إغفال المُشرّع عن تحديد من سيحاسبه. وللتقليل من حجم هذا الخطر، يجب على المُشرّع التأكد من أن القانون يتضمن آليات للرقابة من المرجح أن تضمن الشفافية والمحاسبة، وبقدر الإمكان، المشاركة الواسعة من أصحاب المصلحة.

ويُشبه دور الجهة المنفذة في تنفيذ السياسات والمعايير التي تضعها السلطة التشريعية، دور القاضي الذي يفصل في القضايا وفقا لقواعد القانون واجبة التطبيق. لكن، على عكس القاضي الذي يتصرف بطريقة "رد الفعل"، يجب أن تتصرف الجهة المنفذة بطريقة "الفعل الاستباقي". ومثال لطريقة "رد الفعل"، أن المحاكم لا تتدخل من تلقاء نفسها في أي نزاع إلا عندما يتم رفع قضايا أمامها. لكن إذا لم يرفع شخص دعوى أمامها، فإن القاضي لن تتاح له فرصة تنفيذ القانون.

ومن عيوب طريقة التصرف بطريقة "رد الفعل" أنه، في حالات كثيرة، لا يعرف ضحايا مخالفة بعض القوانين أبدا أن أحدا قد أضرهم. مثلا، قلما يعلم المساهمون متى يتاجر المسئولون في الشركة في أسهمها، ولا يعلم معظم المستهلكين ما إذا كان هناك تاجر محتكر يتحكم في جودة السلعة أو سعرها. ولذلك، لا يكون تصرف الجهة المنفذة بطريقة "رد الفعل" في مثل هذه الحالات مناسبا، بل عليها أن تتصرف بطريقة "الفعل الاستباقي". ومثال ذلك، في قانون لحماية المستهلك، بدلا من أن ينتظر جهاز حماية المستهلك وصول شكاوى إليه حول استغلال تجار سلعة ما، عليه أن يتحرك من تلقاء نفسه ويراقب الأسواق ويجري دراسات حول أية مشكلات قبل حدوثها.

وبصرف النظر عن الغرض الذي يسعى القانون لتحقيقه، لا مفر من نشوب نزاعات حول القرارات التي تتخذها الجهة المنفذة. ولذلك، ينبغي أن ينص القانون على آلية لحل النزاعات التي تنشأ عند التنفيذ. ويمكن أن تتم هذه المساءلة من القمة إلى القاعدة عن طريق الرؤساء (على سبيل المثال، على يد مسئولين إداريين أعلى مستوى، أو جهاز رقابي، أو المحاكم)، أو من القاعدة إلى القمة؛ عن طريق إعطاء الحق في التظلم لأصحاب المصلحة، وكذلك من خلال منظمات المجتمع المدني.
وأيًا كان شكل الجهة المنفذة (وزارة، جهة إدارية، هيئة حكومية، جهة خاصة)، يجب أن يتضمن القانون نظاما ملائما لتسوية النزاعات التي ستنشأ لا محالة في أثناء عملية التنفيذ.

وفي راينا، أن تخويل السلطة التنفيذية سلطة وضع قواعد عامة ذات طابع تشريعي يجب أن لا تكون مطلقة وبلا قيود، وأن تكون في أضيق الحدود وطبقا لمعايير واضحة. وعند تفويضها في وضع أحكام تفصيلية لتسهيل تنفيذ القانون، يجب أن يحدد القانون معايير وآليات تطبيقها، بما يضمن تحقيق الغاية منه. ومن قبيل المحاكاة، مالم يضع المدرب (السلطة التشريعية) خطة جيدة للعب المبارة، عليه أن لا يلوم اللاعبين (السلطة التنفيذية) إذا خسر المباراة!