الإشكاليات المتعلقة بقانون المسئولية الطبية والحلول المقترحة
محمود محمد علي صبره
استشاري الصياغة التشريعية للأمم المتحدة والبنك الدولي
عند صياغة قانون للمسئولية الطبية، تواجه الصائغ ست إشكاليات رئيسة. الأولى تتعلق بالمخاطبين بالقانون من جهة ما إذا كان سيُركز فقط على مهنة الطب أم يشمل المِهن المساعدة لها؟ والثانية تتعلق بتناثر الأحكام ذات الصلة بممارسي مهنة الطب والمِهن المُسَاعدة لها في قوانين أخرى؛ والثالثة، بالتفريق بين الخطأ الطبي وما يتشبه به؛ والرابعة بمستوى العناية الواجب بذلها؛ والخامسة، بسلطة النيابة العامة في دعاوى الخطأ الطبي؛ والسادسة بسلطة القاضي التقديرية في قبول، أو عدم قبول، الأدلة الفنية التي تُثبت حدوثه أو عدم حدوثه.
وفيما يتعلق بالإشكالية الأولى، يُفترَض ألا يقتصر القانون على مُخاطبة الأطباء فقط، بل يمتد ليشمل كل من يُمارس المِهن المُساعِدة لهم؛ ومنهم الصيادلة، وأعضاء طاقم التمريض والمختبرات الطبية والعلاج الطبيعي، وغيرهم. وهنا، تبرز إشكالية تتعلق بنوع الالتزامات التي تقع على كل فئة والتي حتما تختلف من فئة لأخرى.
وترتبط الإشكالية الثانية بالأولى وتتعلق بوجود قوانين عدة لمزاولة مهنة الطب والمِهن المُساعِدة لها. وفي حال وضع قانون للمسئولية الطبية فإنه قد يتضمن قواعد مُكرّرة في قوانين أخرى. ولتجنب حدوث هاتين المشكلتين، يُمكن تخصيص قسم للقواعد العامة يخص مهنة الطب وغيرها من المِهن المُساعِدة لها، وآخر لكل فئة لوحدها. ويُمكن أيضا عمل قانون مُوحّد لمزاولة مهنة الطب والمِهن المُساعدة لها وإلغاء كل القوانين الأخرى ذات الصلة.
أما الإشكالية الثالثة فتتعلق بالتفريق بين الخطأ الطبي وما يتشبه به؛ ومِثالها، بين الخطأ الطبي والمضاعفات المتوقعة للأدوية والتأثيرات الجانبية للعمليات الجراحية وغيرها التي لا يكون للطبيب أي دخل فيها، وبين الخطأ البسيط والخطأ الجسيم، وبين الخطأ المِهني والخطأ العادي الذي لا يتعلق بأصول ممارسة المهنة الطبية.
والأصل، أن الخطأ في المسؤولية التقصيرية هو إخلال بالالتزام ببذل العناية الواجبة الذي يفرضه القانون. لكن الخطأ الطبي يُمكن تعريفه بأنه "تقصير غير متعمد في أداء مُمارس المهنة الطبية للواجبات والقواعد التي تفرضها عليه مهنته يكون سببا وثيق الصلة في حدوث ضرر للمريض سواء كان ذلك بسبب الإهمال، أو عدم بذل العناية الواجبة، أو الافتقاد إلى الخبرة والمهارة، بصرف النظر عن نوع الضرر وحجمه."
وفيما يتعلق بالتفريق بين الخطأ الطبي والمضاعفات غير المتوقعة، يُساعد التمييز بينهما في تحديد المسؤولية القانونية للطبيب والمنشأة الصحية. فالخطأ الطبي يستدعي المساءلة، بينما المضاعفات لا تتطلب ذلك. وفيما يتعلق بالتفريق بين الخطأ المهني والخطأ العادي، ينبغي أن تكون هناك بروتوكولات علاجية مُحدّدة سلفا تُحدد الأصول المهنية لممارسة كل مهنة طبية حتى يُمكن محاسبة من يُخالفها. وفي حالة الخطأ العادي (غير المهني)، يُعامَل ممارس المهنة الطبية مُعَاملة الشخص العادي ويخضع للإجراءات والعقوبات نفسها. وفيما يتعلق بالتفريق بين الخطأ البسيط والخطأ الجسيم، إستقر القضاء والفقه على مُساءلة الطبيب في الحالتين. لكن يرى البعض، ونحن معهم، أن عقوبتي الحبس والسجن، في حالة الإدانة من المحكمة، يجب ألا تطبق إلا في حالة الخطأ الجسيم. ومن ثم، ينبغي تعريف المقصود به والأثر المترتب عليه.
ويُطبّق القضاء الإداري الفرنسي، ويُسايره في ذلك القضاء المدني، نظرية "الخطأ المُفترض" كلما كان سبب الضرر مجهولاً وتعذر تحديده. ففي هذه الحالة تقوم مسئولية المستشفى العام عن كل الأضرار غير العادية التي يصعب تفسيرها إلا بوجود "خطأ شاذ" ما قد ارتكب في أثناء العلاج. ويترتب على ذلك نتيجة خطيرة وهي أن عبء الإثبات ينتقل من المُدعي (المريض) إلى المُدعى عليه (الطبيب أو المستشفى)، ويُعفى المريض تماما من إثبات الخطأ. وإذا أخذنا بنظرية "الخطأ المُفترض"، يجب وضع معايير وضوابط لما يمكن اعتباره "الخطأ الشاذ".
وتتعلق الإشكالية الرابعة بمستوى العناية الواجب الالتزام بها والمعايير الواجب تطبيقها وما إذا كان المعيار واجب التطبيق هو المعيار الذاتي أم المعيار الموضوعي؟ وبعبارة أخرى: هل يُنظر إلى الخطأ من منظور الطبيب المنسوب إليه الخطأ، أم يُنظر إليه من منظور الشخص الحذر المتمرس؟ كذلك، هل يُنظر إليه على المستوى المحلي (القرية أو البلدة أو المحافظة، إلخ.) أم على المستوى الوطني (الدولة)؟
وتستخدم بعض الولايات الأمريكية "قاعدة الخطأ في التقدير"؛ وبموجبها، يُعفى الطبيب من المسؤولية إذا كان الخطأ يرجع إلى الاختيار بين مسارات مختلفة للعلاج أو تشخيص الحالة. ويرى البعض أنه في بعض الحالات قد يتطلب الأمر من الطبيب أن يختار بدائل للعلاج قد تختلف عن طرق العلاج التقليدية المُتبعة، وأن إلزامه باتباع الإجراءات العلاجية التقليدية من شأنه أن يحول دون ابتكار طرق علاجية جديدة. وفي هذا السياق، ظهر في بعض الولايات الأمريكية اتجاه يُطبق "قاعدة الأقلية واجبة الاحترام"؛ وبموجبها لا يُعتبر الطبيب مُهملا لمجرد أنه إختار أن يُطبق مسارا مُعيّنا من مسارات عدة للعلاج. لكن الأمر لا يخلو من الصعوبات؛ وأهمها: هل سنسمح لكل طبيب بالابتكار؟ أم ينبغي وضع معايير تحدد الحالات التي يُسمح فيها بذلك، ومن الذي يُسمح له؟
وفي رأينا، أن المعيار واجب التطبيق للحكم على ما إذا كان قد حدث خطأ طبي، أم لا، هو المعيار الموضوعي من منظور الشخص الحذر المتمرس على المستوى الوطني. ويُستبعد من حالات الخطأ الطبي الخطأ في التقدير مادام لا يقترن بالإهمال، وكذلك اختيار مسار للعلاج مُختلف عن المسارات التقليدية بشرط أن يتم ذلك وفق الضوابط التي تحددها اللائحة التنفيذية للقانون.
وتُثار أيضا مسألة من الذي يُقرر ما إذا كانت العناية المبذولة كافية، أم لا: الجهة الطبية المختصة، أم النيابة العامة، أم القاضي؟ وتعتبر مسألة إثبات أن ممارس المهنة الطبية قد أخل بواجب بذل العناية الواجبة أهم شرط لرفع دعوى الخطأ الطبي لأنها تؤثر في إدانته أو تبرئته. وتنص قوانين المسئولية الطبية، عادة، على تشكيل لجنة طبية متخصصة تختص بتقديم رأيها الفني في تحديد ما إذا كان قد حدث خطأ طبي، أم لا، وبيان سببه والأضرار المترتبة عليه، والعلاقة السببية بين الخطأ والضرر، وأية أمور أخرى تُطلب منها.
وهنا، تبرز الإشكالية الخامسة وتتعلق بما إذا كان يجوز للنيابة العامة أن تتخذ تدابير إحترازية في دعاوى الأخطاء الطبية، من بينها الأمر بالحبس الاحتياطي، قبل أخذ رأي اللجنة الطبية المختصة، أم أن عليها أن تُحيل الشكوى فور تلقيها مباشرة إلى اللجنة الطبية المختصة وتنتظر تقريرها؟ ومن الناحية القانونية، يُفترض أن الدعوى تمر بثلاث مراحل؛ الأولى، جمع الأدلة، والثانية، التحقيق والاتهام، والثالثة، المُحاكمة. فكيف يُمكن أن نتصور أن النيابة العامة، التي تؤدي دورها قبل صدور الإدانة أو البراءة من المحكمة، يجوز لها أن تُهمل دليلا في مسألة فنية نص القانون على مَرجعية وحيدة لإثباتها؛ وهي اللجنة الطبية المختصة؟ لكن عمليا، قد تتطلب ظروف الواقعة، خصوصا في حالات الخطأ الطبي الجسيم، أن تتخذ النيابة العامة تدابير إحترازية لا تحتمل الانتظارحتى تتلقى تقرير اللجنة الطبية الذي قد يستغرق بعض الوقت.
وفي أمريكا، تُوجب بعض الولايات على المريض، إذا أراد أن يرفع دعوى بشأن ارتكاب خطأ طبي، أن يُقدم الشكوى أولا إلى "لجنة للمراجعة الطبية" مُكونة من ثلاثة أطباء لتقدير الحالة. ويُؤخذ برأيها لكنه لا يُعتبر دليلا دامغا، ويُمكن استدعاء أعضائها كخبراء أمام المحكمة. وتوجب مادة (24) من قانون المسئولية الطبية الإماراتي على النيابة العامة "إحالة الشكوى في دعاوى الخطأ الطبي مباشرة للجهة الصحية المختصة لاتخاذ إجراءاتها .. وفي جميع الأحوال لا يجوز التحقيق مع مزاولى المهنة أو القبض عليهم أو حبسهم احتياطيًا نتيجة شكوى ضدهم إلا بعد ورود التقرير الطبي النهائي من الجهة الصحية متضمنًا توافر الخطأ الطبي الجسيم من المشكو في حقه."
وفيما يتعلق بإصدار الأمر بالحبس الاحتياطي من النيابة العامة، يُلاحَظ أن التعديلات الجديدة المُقترح إدخالها على قانون الإجراءات الجنائية المصري حَدّدت الحالات التي يجوز فيها للنيابة أن تُصدر أمرا مُسببّا بالحبس الاحتياطي وقصَرت ذلك على الحالات التي تكون فيها الواقعة جناية أو جنحة مُعاقَبا عليها بالحبس مدة لا تقل عن سنة بشرط أن تكون الأدلة كافية لإدانة المتهم. بل وأجازت أن تُصدر أمرا مُسبّبا بتدابير أخرى بدلا من الحبس الاحتياطي إذا كان المتهم له محل إقامة ثابت ومعروف.
وفي رأينا، أنه لا يجوز للنيابة العامة حبس المتهم إحتياطيا قبل تلقي رأي اللجنة الطبية متضمنا توافر الخطأ الطبي الجسيم من المشكو في حقه. ومع ذلك، يجوز لها أن تتخذ ضده تدابير إحترازية بدلا من الحبس الاحتياطي، منها منعه من مغادرة البلاد إذا كانت ظروف الواقعة تستدعي ذلك وكانت هناك أدلة تكفي لإدانته بناء على أسباب سائغة لها ما يؤيدها في الأوراق. ويُشترط أن يَصدُر الأمر من عضو نيابة بدرجة رئيس نيابة أو من في درجته.
أما الإشكالية الكبرى السادسة فتتعلق بسلطة القاضي التقديرية في قبول، أو عدم قبول، رأي اللجنة الطبية المختصة عن ما إذا كان هناك خطأ طبي، أم لا. فمن جهة، من المبادئ القضائية المستقرة أن للقاضي الجنائي سُلطة تقديرية مُطلقة في تحرّي الحقيقة وتكوين عقيدته بما يُمليه عليه ضميره ووجدانه، وله في ذلك أن يستبعد أي دليل لا يرتاح إليه، وأن يُوازن بين الأدلة المعروضة أمامه ويستخلص منها الحقيقة. ومن جهة أخرى، يُفترض أن الرأي الصادر عن اللجنة الطبية بشأن ما إذا كان قد حدث خطأ، أم لا، مُلزِم بناء على الاختصاص الممنوح لها في قانون المسئولية الطبية. فكيف نسمح للقاضي بتجاهل نصا تشريعيا مُلزما؟ وبعبارة أخرى، إذا كان المُشرّع قد حَدّد طريقة مُعيّنة لإثبات الخطأ الطبي وهي طلب رأي اللجنة الطبية المختصة، فهل يجوز للقاضي إهماله؟
وفي رأينا، أن سلطة القاضي الجنائي التقديرية في استبعاد الدليل المُقدّم من اللجنة الطبية مشروطة بتوافر حالة تعدد الأدلة واحتمال التعارض بينها، ووجود شبهات حول الدليل المُقدّم. ويُعتبر القاضي في هذه الحالة "خبير الخبراء"، وتكون له حُرية مُطلقة في الأخذ بما يراه من أدلة، ورفض ما عداه. ومع ذلك، ينبغي أن نفرق بين حالتين؛ الأولى، أن يُثبت تقرير اللجنة حدوث الخطأ الطبي، والثانية، أن ينفيه. وفي الحالة الأولى، يجوز للقاضي أن يأخذ بما يراه من أدلة يقتنع بها وجدانه حتى لو كانت تتعارض مع رأي اللجنة. أما في الحالة الثانية، يلتزم القاضي بما تراه اللجنة الطبية.
ورغم إعطائه هذه السلطة، فإنها مشروطة بأن يبني القاضي إقتناعه على أسباب سائغة لها مُعينها من الأوراق وتؤدي إلى النتيجة التي انتهى إليها الحكم بما يكشف عن إطلاعه على كل الأدلة المُقدمة فيها. ويخضع القاضي في ممارسته لسلطته التقديرية لرقابة محكمة النقض