الضوابط التشريعية للسلطة التقديرية لجهة الإدارة
محمود محمد علي صبره
استشاري الصياغة التشريعية للأمم المتحدة والبنك الدولي
القاعدة العامة هي أن جهة الإدارة لديها سلطة تقديرية في التصرف تجاه الأوضاع التي تصادفهافي حدود ما نص عليه الدستور والقانون ومقتضيات المصلحة العامة وتسيير المرفق العام. وتنشأ هذه السلطة إما بنص صريح في القانون أو في غياب أي نص يقيدها.ولا يمكن الاستغناء عنها؛ إذْ من المستحيل أن يتنبأ المُشرّع بكل الحالات التي ستواجهها التدابير التي ينص عليها التشريع عند التطبيق ويضع معايير جامدة مسبقا تلتزم بها الإدارة في كل حالة. وفي جميع الأحوال، تخضع السلطة التقديرية لجهة الإدارة لرقابة القاضي الإداري.
ونادرا ما يمنحالمُشرّع السلطة التقديرية لجهة الإدارة طليقة من كل قيد.بليقرنها، غالبا، بقيود وشروط وضوابط معينة. ومثال ذلك ما نصت عليه مادة (29) من قانون الخدمة المدنية المصري رقم 81/2016 في شأن ترقية الموظف؛ إذْ نصت على أن تكون الترقية في الوظائف التخصصية بطريق الاختيار، وباقي الوظائف بالأقدمية، كذلك حددت شروطا عامة للترقية منها ضرورة استيفاء الموظف لشروط شغل الوظيفة المُرقّى إليها، وأن يحصل على تقرير تقويم أداء بمرتبة ممتاز في الوظائف التخصصية، وكفء في باقي الوظائف.
وقد تأخذ الضوابط التشريعية شكل تقييد السلطة التقديرية لجهة الإدارة عن طريق إلزامها بتسبيب قرارها، ومثالها، ما نصت عليه مادة (37) من قانون التعاقدات العامة رقم 182/2018 من اشتراط أن يكون إلغاء المناقصة قبل أو بعد البت فيها بقرار مسبب من السلطة المختصة.وقد يكون مجال السلطة التقديرية هو الاختيار بين البدائل التي حددها المشرع. ومثاله، ما نصت عليه مادة (51) من القانون نفسه من أنه "يجوز للجهة الإدارية فسخ العقد اوتنفيذه على حساب المتعاقد، إذا أخل بأى شرط جوهري من شروطه." وفي هذا المثال، حدد المُشرّع القاعدة وحدد البديلين الواجب الاختيار بينهما؛ وهما: فسخ العقد أو تنفيذه على حساب المتعاقد، وترك لجهة الإدارة حرية اختيار البديل المناسب على حسب الظروف الواقعية لكل حالة.
وتنشأمشكلة عندما تكونالضوابط التي تحكم السلطة التقديرية غير محددة أو غير واضحة أو يشوبها الانحراف التشريعي. ومثالها ما نصت عليه مادة (11) من القانون نفسه من أنه "يجوز إبرام عقود التوريدات والخدمات الدورية لمدة تجاوز السنة المالية بشرط ألا يترتب عليها زيادة الالتزامات في إحدى السنوات المالية التالية عما هو مقرر في السنة التي يتم فيها التعاقد."إن مثل هذا النص يطرح سؤالا مهما؛ هو: هل يجوز لجهة الإدارةقصْر التعاقد على مورد أو متعهد بعينه لمدة زمنية غير محددة؟ألا يحمل ذلك في حد ذاته شبهة عدم الدستورية باعتبار أنه يخالف مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص التي نص عليها القانون نفسه؟ ويُلاحظ، أنه باستثناء شرط عدم تجاوز الاعتماد المالي، لم ترد أية شروط أخرى سواء في القانون أو لائحته التنفيذية.
وفي رأينا، ينبغي عدم السماح أبدا بأن يمنح التشريع سلطة مطلقة لجهة الإدارة. وفي الحالات التي تقتضي منحها ينبغي تقييدها بضوابط محددة وواضحة؛ منها، مثلا، أن يكون القرار مُعلنا، ومُسببا، وجماعيا (تتخذه لجنة ويعتمده صاحب الصلاحية)، وأن يكون مبنيا على سوابق قبله أو يشكل سابقة لأي قرار يصدر بعده في أوضاع مماثلة.