المحامي والجلاد

المحامي والجلاد

المحامي والجلاد!
محمود محمد علي صبره
استشاري الصياغة التشريعية للأمم المتحدة

في يوم13 يونيو 1906، حدثت مواجهة بين خمسة ضباط إنجليز كانوا يصطادون الحمام في دنشواي وفلاحين مصريين، اعتدى خلالها بعض الفلاحين على الضباط الانجليز بالعصي والحجارة، وحدثت اشتباكات بين الجانبين لقي خلالها ثلاثة مصريينمصرعهم وتوفي ضابط إنجليزي بضربة شمس. وخلال أربعة أيام فقط من وقوع الحادثة، عُقدت محاكمات عُرفية حُكم خلالها بإعدام بعض المصريين وجلد آخرين، ونُفذت الأحكام ثاني يوم صدورها. ولم تصدر أحكام بخصوص مصرع المصريين.

وقتها، كان يرأس المحكمة، التيأصدرت هذه الأحكام الجائرة،بطرس غالي، وزير الحقانية (العدل) بالإنابة، وكان"ابراهيم الهلباوي" مدعى النيابة. وفي مرافعته أمام المحكمة، دافع الهلباوي عن الاحتلال الانجليزي لمصر ووصف الفلاحين الذين اعتدوا على الضباط الانجليز "بالسفلة وأدنياء النفوس من أهالي دنشواي الذين قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الانجليز بالعصي والنبابيت!." ونتيجة لذلك، لقب الأهالي الهلباوي "جلاد دنشواي".

وفي يوم 20 فبراير 1910، بعد أربعة أعوام من المحاكمات الظالمة، هاهو "بطرس غالي"- رئيس محاكمات دنشواي- يخرج من مكتبه وقبل أن يستقل سيارته والأمطار تهطل بغزارة من سماء القاهرة، يُطلق عليه الشاب "ابراهيم الورداني" النار فيلقى مصرعه.وعندما سُئل الورداني عن سبب قتله لبطرس غالي ؟ قال "نعم قتلت بطرس غالي ولست نادماً لأنه خائن للوطن." وذكر أن من بين أسباب اغتياله، دوره في محاكمات دنشواي.

ومن غرائب الأقدار أن من بين من تصدى للدفاع عن الورداني، المحامي الهلباوي الذي كان يمثل النيابة العامة في محاكمات دنشواي ولُقب "جلاد دنشواي". ومع اختلاف الأدوار تغيرت المواقف.وفي مرافعته، قال الهلباوي: "أيها القضاة لقد خدمت نحو خمس وعشرين عاماً محامياً، ولم يخطر ببالي يوماً أن أسأل سبب إختيار الرداء الأسود حُلة رسمية للمحامي...، ولا سبب إنتخاب اللون الأخضر للوسام الذي تُزان به صدور من عُهد اليهم بإصدار الحكم.....لكن إن كان مُختار هذه الألوان أراد باللون الأسود رمز الحداد والمصائب للمحامي الذي يمثل الدفاع، وباللون الأخضر الذي يتحلى به صدر القاضي الرمز الى الطاووس ذي الريش الأخضر وهو مثال ملائكة الرحمة، فنعم الإختيار."

واستطرد الهلباوي قائلا"كأننا نحن في هذه القاعة أمام أولئك القضاة ملائكة الرحمة على سطح هذه الأرض نقوم على نوع ما بمأمورية شبيهة بمأمورية أولئك الأحبار في هياكلهم اللذين إتخذوا مثلنا ثياب الحداد وهم يتضرعون الى مُبدع السموات والأرض بأن يفيض على الأرواح الذاهبة الى دار الخلود سُحُب رحمته وغفرانه.... فتقبلوا دعاءنا في طلب الرحمة للأحياء كما يتقبلها من أقامكم حكماً في عباده والذي علمنا أنه كما أن من صفاته العدل فإن من صفاته الرحمة، وعلمنا فوق هذا أن الرحمة فوق العدل."

ثم خاطب الهلباوي، الورداني قائلا"إني إذ أنزلتك منزلة المجرمين العاديين، وطلبت لك الرحمة والغفران فلأن ذلك واجب أيضاً يقتضيه الدفاع....إذهب الى لقاء الله الذي لا يرتبط الا بعدالته المجردة عن الظروف والزمان والمكان، إذهب مودعاً منا بالقلوب والعبرات، إذهب فقد يكون في موتك بقضاء البشر عظة لأمتك أكثر من حياتك، إذهب فإن قلوب العباد اذا ضاقت رحمتها عليك فرحمة الله واسعة."

وفي مرافعته عن الورداني، طلب المحامي "أحمد لطفى السيد" اعتبار الجريمة شروع في قتل لأن المجني عليه لم يلق مصرعه بسبب الرصاصات التي أطلقها عليه الورداني وإنما بسبب الإهمال الطبي. ثم خاطب الورداني قائلا "أما أنت فقد همت بحب بلادك حتى أنساك ذلك الهيام كل شيء حولك، أنساك واجباً مقدساً هو الرأفة بأختك الصغيرة، وأمك الحزينة، فتركتهما تبكيان هذا الشاب الغض، تركتهما تتقلبان على جمر، وتقلبان الطرف حولهما فلا تجدان غير منزل مُقفر غاب عنه عائله، تركتهما على ألا تعود اليهما وأنت تعلم أنهما لا تطيقان صبراً على فراقك لحظة واحدة، فأنت أملهما ورجاؤهما، نسيت كل ما تملك في الحياة وقلت إن السعادة في حب الوطن وخدمة البلاد، واعتقدت أن الوسيلة الوحيدة للقيام بهذه الخدمة هي تضحية حياتك...."

وقد قضت المحكمة بإعدام الورداني شنقا. وفي يوم 28 يونيو 1910، نُفذ حكم الإعدام. وفي يوم تنفيذ الحكم، خرج آلاف المصريين يُغنون في الشوارع "قولوا لعين الشمس ما تحماش، أحسن غزال البر صابح ماشي"، ثم أستُخدمت هذه الأغنية في مناسبات كثيرة بعد ذلك، فغناها الشعب المصري لزعيم حزب الوفد "سعد زغلول" يوم نفيه خارج البلاد وخرجت الجماهير المصرية إلى الشوارع تهتف"قولوا لعين الشمس ما تحماش، لحسن زعيم الوفد صابح ماشي". وقد تحول هذا الهتافبعد ذلك وأصبح أغنية غنتها الفنانة المحبوبة شادية تقول كلماتها"قولوا لعين الشمس ما تحماش، أحسن حبيب القلب صابح ماشي"!.